مستقبل الناتو- هل تتخلى أمريكا عن حلفائها وتترك أوروبا وحيدة؟

منذ عودته المظفرة إلى سدة الحكم، تجسد الرئيس ترامب كأداة لهدم الأسس التاريخية لحلف شمال الأطلسي (الناتو). وتواترت التقارير من مؤسسات إعلامية أمريكية وغربية مرموقة، ولها باع طويل في صناعة الأخبار، تفيد بوجود احتمال وارد بانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من هذا الحلف العريق، أو بتقليص التزاماتها تجاهه بشكل ملحوظ.
وإذا ما صحت تلك التقارير، فمن المتوقع أن يشهد الحلف إعادة تعريف جوهرية لهويته، ليتحول إلى تحالف أمني وعسكري أوروبي خالص، منفصلًا عن صورته السابقة التي كان يتقاسمها مع الولايات المتحدة.
إن ذلك الجدال العلني الحاد والفظ بين الرئيس ترامب، والمسؤول الأوكراني البارز بكل ما يحمله من ثقل ورمزية أوروبية، والذي وصل إلى ذروته بطرد الأخير من البيت الأبيض في تصرف نادر وخارج عن الأعراف الدبلوماسية، لم يكن مجرد خلاف حول صفقة المعادن الأوكرانية، أو رفض الانصياع لشروط الرئيس الروسي بوتين بالإكراه. بل كان تعبيرًا عن أزمة عميقة، هي الأخطر في تاريخ الناتو منذ تأسيسه في أواخر أربعينيات القرن الماضي، الأمر الذي دفع المحلل السياسي توماس فريدمان إلى عدم إخفاء صدمته، مع تلميحه المباشر إلى أن ترامب "يمثل دور العميل الروسي على شاشة التلفزيون"!.
في الواقع، كان المسؤولون الأوروبيون يدركون تمام الإدراك، منذ اللحظة التي انتُخب فيها ترامب رئيسًا، أن المبادئ الأساسية للنظام العالمي الذي ترسخ بعد الحرب العالمية الثانية ستكون عرضة للخطر. وقد تجسد هذا الخوف بوضوح خلال الحملة الانتخابية، عندما أعلن ترامب صراحةً أنه سيشجع الروس على فعل ما يحلو لهم تجاه أعضاء حلف شمال الأطلسي الذين لم يقدموا المساهمات الكافية، من وجهة نظره، للتحالف. والجدير بالذكر أنه بعد انتهاء الحرب الباردة، قامت أجزاء واسعة من أوروبا بتفكيك ترساناتها من الدبابات، وإغلاق المصانع التي كانت تنتج الذخيرة، اعتقادًا منها بأن اندلاع حرب برية في أوروبا أصبح ضربًا من الخيال.
صحيح أن بريطانيا وفرنسا تمتلكان قدرات نووية مستقلة، إلا أنها لا تمثل سوى جزءًا ضئيلًا من حجم الترسانات الأمريكية والروسية الهائلة.
وقد بدأ بعض القادة الأوروبيين، بمن فيهم الرئيس الفرنسي ماكرون، في الإقرار بأن أوروبا قد أبدت تباطؤًا شديدًا في الاستجابة لمطالبات الولايات المتحدة بزيادة الإنفاق على جيوشها وإعادة تسليحها. وتعود جذور هذه المطالبات إلى ما قبل أن يتخيل أي شخص أن رئيسًا أمريكيًا قد يقف في صف الرئيس الروسي بوتين.
يشير تقرير حديث صادر عن مركز الأبحاث الأوروبي "بروغل" إلى أن أوروبا ستحتاج إلى حوالي 300 ألف جندي إضافي، بتكلفة تقارب 262 مليار دولار، لكي تحل محل الولايات المتحدة بشكل كامل في الأمور الدفاعية. ويؤكد المركز أن "هذه الأعداد متواضعة بما يكفي لتمكين أوروبا من الحلول محل الولايات المتحدة بالكامل".
وقبل تلك المشادة الكلامية مع ترامب بأسبوع، صرح زيلينسكي قائلًا: "لنكن واضحين: لا يمكننا استبعاد احتمال رفض أمريكا التعاون مع أوروبا في القضايا التي تهددها. لقد تحدث العديد من القادة عن حاجة أوروبا إلى جيشها الخاص: جيش أوروبي بكل ما تحمله الكلمة من معنى. أعتقد حقًا أن الوقت قد حان لإنشاء قوات مسلحة أوروبية موحدة".
ويرى الفيلسوف الفرنسي المرموق برنار هنري ليفي، "أن أوروبا لا تملك خيارًا آخر. لقد أوضح لنا الرئيس الأمريكي ووزير الدفاع ووزير الخارجية مرارًا وتكرارًا أننا لا نستطيع الاعتماد على الولايات المتحدة إلى ما لا نهاية. يجب علينا أن نتحد أو نفنى. وإذا لم نتحرك، فسنكون عرضة لهجوم روسي جديد في غضون عامين أو ثلاثة أو خمسة أعوام، يستهدف إحدى دول البلطيق، أو بولندا، أو أي مكان آخر".
والحقيقة أن هذا السؤال حول مستقبل حلف الناتو ليس وليد اللحظة، بل تصدر عناوين الصحف في مناسبات عديدة سابقة، مع كل أزمة دولية أو إقليمية تؤدي إلى تفاقم الخلافات وتضعف وحدة هذه المنظمة الأمنية والعسكرية الأضخم في العالم. حتى أن هذا السؤال بات يثير سخرية البعض، ويعتبرونه من قبيل الإلهاء، أو يتم استدعاؤه في كل مرة يعجز فيها الصحفيون عن إيجاد أخبار أخرى لملء صفحات الجرائد.
ففي 29 أغسطس/ آب 2018، كتب "مايكل روهل" في مجلة الناتو، متهكمًا من هذا التوجه، قائلًا: "قبل خمسة عشر عامًا، عندما أدت حرب العراق إلى انقسام حلفاء الناتو، حتى أن البعض تحدث عن نهاية الحلف الأطلسي، ظل الصحفي المخضرم جيم هوغلاند هادئًا، وأشار خلال جلسة تبادل أفكار مع سفراء الناتو إلى أن التنبؤات بشأن الزوال الوشيك لحلف شمال الأطلسي قديمة قدم الحلف نفسه". بل إنه ألقى باللوم على زملائه الصحفيين قائلًا: "كلما مررنا بيوم إخباري ممل في صحيفة واشنطن بوست، ننشر مقالًا بعنوان "إلى أين يسير حلف شمال الأطلسي؟!"
وفي السياق ذاته، لم يكن ترامب أول مسؤول أمريكي رفيع المستوى يهدد بـ"اختفاء الناتو" أو ابتزازه. ففي خطاب ألقاه في بروكسل في يونيو/ تموز 2011، حذر وزير الدفاع الأمريكي آنذاك روبرت غيتس حلفاء واشنطن الأوروبيين من أنه إذا لم يبدؤوا في تخصيص المزيد من الأموال لأمنهم، فقد يصبح حلف شمال الأطلسي يومًا ما مجرد ذكرى باهتة من الماضي.
ومع مرور الوقت، تلاشت تلك التهديدات، وتراجعت لغة الابتزاز، وظل الحلف قائمًا. والسبب في ذلك، كما يعتقد المنظرون الأمنيون الغربيون، هو أن الناتو يمثل الصفقة الأمنية الأهم في تاريخ الدول الأعضاء، ولا يزال يحافظ على أهميته، سواء بالنسبة لأوروبا القلقة من الانسحاب المحتمل لواشنطن، أو بالنسبة لأمريكا التي تتوق إلى الخروج التدريجي من هذا التحالف.
فمبدأ الدفاع الجماعي، المنصوص عليه في المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي، يظل في صميم المعاهدة التأسيسية للحلف. هذا المبدأ الفريد والدائم يربط أعضاء الحلف معًا، ويلزمهم بحماية بعضهم البعض، ويرسخ روح التضامن داخل التحالف.
بالإضافة إلى ذلك، بالنسبة للعديد من دول منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي، والتي تتطلع إلى إظهار استقلالها عن روسيا من خلال علاقاتها مع منظمة حلف شمال الأطلسي، فإن انتهاء الدور الأمني الأمريكي في أوروبا سيمثل كارثة إستراتيجية بكل المقاييس. فالتوازن الجديد للقوى في منطقة أوراسيا، في مرحلة ما بعد أمريكا، سيحكم عليها بالبقاء بشكل دائم في فلك النفوذ الروسي.
علاوة على ذلك، فإن الولايات المتحدة، ومعظم حلفائها السابقين، ستفقد عاجلًا أم آجلًا قدرتهم على التعاون عسكريًا. وبدون الإجراءات والمعايير المجربة والمختبرة لحلف شمال الأطلسي، فإن حتى دور الولايات المتحدة كقوة تمكينية عسكرية "القيادة من الخلف" سيصبح أكثر صعوبة بكثير من ذي قبل.
وإذا ما نظرنا إلى المستقبل، فإن كانت الولايات المتحدة ترغب في الحصول على الدعم الدولي في أي صراع محتمل مع الصين أو إيران، أو تحقيق أي قدر من التماسك السياسي الدولي بشأن قضايا تتراوح من الفضاء إلى الدفاع الصاروخي إلى التوسع الروسي، فإن بناء هذا الإجماع سيكون أكثر تعقيدًا وصعوبة بدون وجود الناتو والتحالفات المماثلة له.
ناهيك عن أن حلف شمال الأطلسي سيظل "حقيقة واقعة" يتعين على جميع الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض التعايش معها، وذلك بسبب التشريع الذي تم سنه في قانون تفويض الدفاع الوطني، والذي يقيد قدرة الرئيس الأمريكي على الانسحاب من جانب واحد من التحالفات دون الحصول على موافقة الكونغرس.
باختصار، فإن العالم بدون حلف شمال الأطلسي سيكون بمثابة "صفقة خاسرة" بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها في أوروبا وخارجها، على حد تعبير مايكل روهل في مجلة الناتو نفسها.